فصل: الفصل العاشر‏:‏ معاصي الأمم لا تقدح في الرسل ولا في رسالتهم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى **


*1* الفصل العاشر‏:‏ معاصي الأمم لا تقدح في الرسل ولا في رسالتهم

قال السائل‏:‏ ‏(‏‏(‏نرى في دينكم أكثر الفواحش، فيمن هو أعلم، وأفقه في دينكم، كالزنا، واللواط، والخيانة، والحسد، والبخل، والغدر، والتجبر، والتكبر، والخيلاء، وقلة الورع، واليقين، وقلة الرحمة، والمروءة، والحمية، وكثرة الهلع، والتكالب على الدنيا، والكسل في الخيرات، وهذا الحال يكذب لسان المقال‏)‏‏)‏ والجواب من وجوه‏:‏ ‏(‏ص 130‏)‏

*2* ‏(‏أحدها‏)‏

أن يقال‏:‏ ما ذا على الرسل الكرام من معاصي أممهم وأتباعهم‏؟‏ ‏!‏

وهل يقدح ذلك شيئا في نبوتهم أو يغير وجه رسالتهم‏؟‏ ‏!‏

وهل سلم من الذنوب على اختلاف أنواعها، وأجناسها إلا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم‏؟‏ ‏!‏

وهل يجوز رد رسالتهم وتكذيبهم بمعصية بعض أتباعهم لهم‏؟‏ ‏!‏

وهل هذا إلا من أقبح التعنت‏؟‏ ‏!‏ وهو بمنزلة رجل مريض دعاه طبيب ناصح إلى سبب ينال به غابة عافيته، فقال‏:‏ لو كنت طبيبا لم يكن فلان وفلان وفلان مرضى‏!‏ وهل يلزم الرسل أن يشفوا جميع المرضى بحيث لا يبقى في العالم مريض‏؟‏ ‏!‏

هل تعنت أحد من الناس للرسل بمثل هذا التعنت‏؟‏ ‏!‏

*2*ذنوب الموحدين من المسلمين في جنب عظائم اليهود والنصارى كتفلة في بحر‏!‏

*3*‏(‏الوجه الثاني‏)‏

أن الذنوب والمعاصي أمر مشترك بين الأمم، لم تزل في العالم من طبقات بني آدم عالمهم، وجاهلهم، وزاهدهم في الدنيا، وراغبهم، وأميرهم، ومأمورهم، وليس ذلك أمرا اختصت به هذه الأمة حتى يقدح به فيها وفي نبيها‏.‏

*3*الوجه الثالث‏)‏

أن الذنوب والمعاصي لا تنافي الإيمان بالرسل، بل يجتمع في العبد الإسلام والإيمان والذنوب والمعاصي، فيكون فيه هذا وهذا‏.‏ فالمعاصي لا تنافي الإيمان بالرسل وإن قدحت في كماله وتمامه‏.‏

*3*‏(‏الوجه الرابع‏)‏

أن الذنوب تغفر بالتوبة النصوح، فلو بلغت ذنوب العبد عنان السماء، وعدد الرمل والحصا، ثم تاب منها تاب الله عليه،

قال تعالى‏:‏ ‏(‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم‏)‏‏.‏ فهذا في حق التائب؛ فإن التوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوحيد يكفر الذنوب‏.‏

كما في الحديث الصحيح الإلهي‏:‏ ‏(‏‏(‏ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لقيتك بقرابها مغفرة‏)‏‏)‏ فالمسلمون ذنوبهم ذنوب موحد إن قوي التوحيد على محو آثارها بالكلية، وإلا فما معهم من التوحيد يخرجهم من النار إذا عذبوا بذنوبهم‏.‏

وأما المشركون، والكفار فإن شركهم وكفرهم يحبط حسناتهم، فلا يلقون ربهم بحسنة يرجون بها النجاة، ولا يغفر لهم شيء من ذنوبهم، قال تعالى‏:‏ ‏(‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏)‏‏.‏

وقال تعالى في حق الكفار والمشركين‏:‏ ‏(‏وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا‏)‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أبى الله أن يقبل من مشرك عملاً‏)‏‏)‏ فالذنوب تزول آثارها بالتوبة النصوح، والتوحيد الخالص، والحسنات الماحية، والمصائب ‏(‏ص 131‏)‏ المكفرة لها، وشفاعة الشافعين في الموحدين، وآخر ذلك إذا عذب بما يبقى عليه منها أخرجه توحيده من النار‏.‏

وأما الشرك بالله، والكفر بالرسول، فإنه يحبط جميع الحسنات بحيث لا تبقى معه حسنة‏.‏

*2*من فضائح اليهود وقبائحهم المنكرة

*3*‏(‏الوجه الخامس‏)‏

أن يقال لمورد هذا السؤال إن كان من أمة اليهود‏:‏ ألا يستحي من إيراد هذا السؤال من آباؤه وأسلافه كانوا يشاهدون في كل يوم من الآيات ما لم يره غيرهم من الأمم‏؟‏ ‏!‏ وقد فلق الله لهم البحر، وأنجاهم من عدوهم، وما جفت أقدامهم من ماء البحر، حتى قالوا لموسى‏:‏

‏(‏اجعل لنا إلها كما لهم ألهه، قال‏:‏ إنكم قوما تجهلون‏)‏ ولما ذهب لميقات ربه لم يمهلوه أن عبدوا بعد ذهابه العجل المصوغ، وغلب أخوه هرون معهم، ولم يقدر على الإنكار عليهم، وكانوا مع مشاهدتهم تلك الآيات، والعجائب، يهمون برجم موسى، وأخيه هرون في كثير من الأوقات، والوحي بين أظهرهم‏!‏‏!‏

ولما ندبهم إلى الجهاد قالوا‏:‏‏(‏اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون‏)‏، وآذوا موسى أنواع الأذى حتى قالوا‏:‏ أنه آدر - أي منتفخ الخصية - ولهذا يغتسل وحده، فاغتسل يوما ووضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه فعدا خلفه عريانا حتى نظر بنو إسرائيل إلى عورته، فرأوه أحسن خلق الله متجردا‏.‏

ولما مات أخوه هرون قالوا‏:‏ إن موسى قتله وغيبه‏.‏ فرفعت الملائكة لهم تابوت بين السماء والأرض حتى عاينوه ميتا، وآثروا العود إلى مصر وإلى العبودية ليشبعوا من أكل اللحم، والبصل، والقثاء، والعدس‏.‏ هكذا عندهم‏.‏

والذي حكاه الله عنهم أنهم آثروا ذلك على المن والسلوى؛ وإنهماكهم على الزنا وموسى بين أظهرهم، وعدوهم بإزائهم حتى ضعفوا عنهم ولم يظفروا بهم، وهذا معروف عندهم‏.‏

وعبادتهم الأصنام بعد عصر يوشع بن نون معروف، وتحيلهم على صيد الحيتان في يوم السبت لا تنسه، حتى مسخوا قردة خاسئين وقتلهم الأنبياء بغير حق حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا في أول النهار، وأقاموا السوق آخره، كأنهم جزروا غنما وذلك أمر معروف‏.‏

وقتلهم يحيى بن زكريا ونشرهم إياه بالمنشار، وإصرارهم على العظائم واتفاقهم على تغيير الكثير من أحكام التوراة، ورميهم لوطا بأنه وطئ ابنتيه وأولدهما، ورميهم يوسف بأنه حل سراويله، وجلس من امرأة العزيز من القابلة حتى انشق له الحائط، وخرجت له كف يعقوب، وهو عاض على أنامله، فقام وهرب‏.‏

وهذا لو رآه أفسق الناس، وأفجرهم لقام ولم يقض غرضه، وطاعتهم للخارج على ولد سليمان بن ‏(‏ص 132‏)‏ داود لما وضع لهم كبشين من ذهب فعكفت جماعتهم على عبادتهما، إلى أن جرت الحرب بينهم وبين المؤمنين الذين كانوا مع ولد سليمان، وقتل منهم في معركة واحدة ألوف مؤلفة‏.‏

أفلا يستحي عباد الكباش والبقر من تغيير الموحدين بذنوبهم‏؟‏ ‏!‏

أولا تستحي ذرية قتلة الأنبياء من تعيير المجاهدين لأعداء الله‏؟‏ ‏!‏

فأين ذرية من سيوف آبائهم تقطر من دماء الأنبياء ممن تقطر سيوفهم من دماء الكفار والمشركين‏؟‏ ‏!‏

أولا يستحي من يقول في صلاته لربه‏:‏ انتبه كم تنام يا رب، استيقظ من رقدتك، ينخيه بذلك ويحميه، من تعيير من يقول في صلاته‏:‏ ‏(‏الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين‏)‏ فلو بلغت ذنوب المسلمين عدد الحصا والرمال والتراب والأنفاس، ما بلغت مبلغ قتل نبي واحد، ولا وصلت إلى اليهود ‏(‏إن الله فقير ونحن أغنياء‏)‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏(‏عزير بن الله‏)‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏(‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏)‏‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏(‏إن الله بكر على الطوفان حتى رمد من البكاء، وجعلت الملائكة تعوده، وقولهم‏:‏ أنه عض أنامله على ذلك‏.‏

وقولهم‏:‏ إنه ندم على خلق البشر، وشق عليه لما رأى من معاصيهم وظلمهم‏.‏

وأعظم من ذلك نسبة هذا كله إلى التوارة التي أنزلها على كليمه، فلو بلغت ذنوب المسلمين ما بلغت، لكانت في جنب ذلك كتفلة في بحر، ولا تنس ‏(‏‏(‏قصة أسلافهم مع شاؤل الخارج على داود‏)‏‏)‏ فإن سوادهم الأعظم انضم إليه، وشدوا معه حرب داود‏.‏

ثم لما عادوا إلى طاعة داود، وجاءت وفودهم وعساكرهم مستغفرين معتذرين، بحيث اختصموا في السبق إليه فنبغ منهم شخص، ونادى بأعلى صوته‏:‏ لا نصيب لنا في داود‏.‏

ولا حظ في شاؤل، ليمض كل منهم إلى خبائة يا إسرائيلين، فلم يكن بأوشك من أن ذهب جميع عسكر بني إسرائيل إلى أخبيتهم بسبب كلمته، ولما قتل هذا الصائح، عادت العساكر جميعها إلى خدمة داود، فما كان القوم إلا مثل همج رعاع، يجمعهم طبل ويفرقهم عصى‏!‏‏!‏

*2* افتراق اليهود، واختلاقهم كتاب علم الذباحة

*3* ‏(‏فصل‏)‏ كتب اليهود

وهذه ‏(‏‏(‏الأمة الغضيبة‏)‏‏)‏ وإن كانوا متفرقين افتراقا كثيرا فيجمعهم فرقتان‏:‏

‏(‏‏(‏القرابون والربانيون‏)‏‏)‏ وكان لهم أسلاف فقهاء، وهم صنفوا لهم كتابين‏:‏

‏(‏أحدهما‏)‏‏:‏ يسمى‏:‏ ‏(‏‏(‏المشنا‏)‏‏)‏ ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة‏.‏ ‏(‏والثاني‏)‏‏:‏ يسمى‏:‏ ‏(‏‏(‏التلمود‏)‏‏)‏ ومبلغه قريب من نصف حمل بغل، ولم يكن المؤلفون له في عصر واحد، وإنما ألفوه في جيل بعد جيل‏.‏

فلما نظر متأخروهم إلى ذلك، وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه، وفي الزيادات المتأخرة ما ينقض كثيرا من أوله علموا أنهم إن لم يقفلوا باب الزيادة، وإلا أدى إلى الخلل الفاحش ‏(‏ص 133‏)‏ فقطعوا الزيادة، وحظروها على فقهائهم، وحرموا من يزيد عليه شيئا فوقف الكتاب على ذلك المقدار‏.‏

وكان فقهاؤهم قد حرموا عليهم في هذين الكتابين مؤاكلة من كان على غير ملتهم، وحظروا عليهم أكل اللحمان من ذبائح من لم يكن على دينهم، لأنهم علموا أن دينهم لا يبقى عليهم مع كونهم تحت الذل، والعبودية، وقهر الأمم لهم، إلا أن يصدوهم عن مخالطة من كان على غير ملتهم، وحرموا عليهم مناكحتهم، والأكل من ذبائحهم، ولم يمكنهم ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم، ويكذبون فيها على الله‏.‏

فإن التوارة إنما حرمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا أزواجهم في عبادة الأصنام والكفر بالله، وإنما حرمت عليهم أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قربانا للأصنام، لأنه سمى عليها اسم الله‏.‏

فأما ما ذكر عليه اسم الله، وذبح لله، فلم تنطق التوارة بتحريمه البتة، بل نطقت بإباحة أكلهم من أيدي غيرهم من الأمم، وموسى إنما نهاهم عن مناحكة عباد الأصنام، وأكل ما يذبحونه باسم الأصنام، قالوا‏:‏ التوارة حرمت علينا أكل الطريفا، قيل لهم‏:‏ الطريفا هي‏:‏ الفريسة التي يفترسها الأسد، أو الذئب، أو غيرهما من السباع‏.‏

كما قال في التوارة‏:‏‏(‏‏(‏ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا وللكلب ألقوه‏)‏‏)‏ فلما نظر فقهاؤهم إلى أن التوارة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام، وصرحت التوارة بأن تحريم مؤاكلتهم، ومخالطتهم خوف استدراج المخالطة إلى المناكحة، والمناكحة قد تستتبع الانتقال من دينهم إلى أديانهم، وموافقتهم في عبادة الأوثان، ووجدوا جميع هذا واضحا في التوارة، اختلقوا كتابا سموه‏:‏ ‏(‏‏(‏هلكث شحيطا‏)‏‏)‏ وتفسيره‏!‏علم الذباحة‏.‏

ووضعوا في هذا الكتاب من الآصار والأغلال ما شغلوهم به عما هم فيه من الذل، والصغار، والخزي فأمروهم فيه أن ينفخوا الرئة حتى يملؤها هواء ويتأملونها، هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا‏؟‏ فإن خرج منها الهواء حرموه، وإن كانت بعض أطراف الرئة لاصقة ببعض لم يأكلوه‏.‏

وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة، ويتأمل بأصابعه، فإن وجد القلب ملتصقا إلى الظهر، أو أحد الجانبين، ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة، حرموه، ولم يأكلوه، وسموه‏:‏ ‏(‏‏(‏طريفا‏)‏‏)‏ ومعنى هذه اللفظة عندهم‏:‏ أنه نجس حرام، وهذه التسمية عدوان منهم؛ فإن معناها في لغتهم هي‏:‏ الفريسة التي يفترسها السبع، ليس لها معنى في لغتهم سواه‏.‏

ولذلك عندهم في التوارة‏:‏ أن إخوة يوسف لما جاؤا بقميصه ملطخا بالدم قال يعقوب في جملة كلام‏:‏ ‏(‏‏(‏طاروف طوارف يوسف‏)‏‏)‏ تفسيره‏:‏ وحش ردي أكله افتراسا افترس يوسف، وفي التوارة‏:‏ ‏(‏‏(‏ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا‏)‏‏)‏ فهذا الذي حرمته التوارة من الطريفا، وهذا نزل عليهم وهم في التيه، وقد اشتد قرمهم إلى اللحم، فمنعوا من أكل الفريسة والميتة‏.‏

ثم ‏(‏ص 134‏)‏ اختلفوا في خرافات وهذيانات تتعلق بالرئة، وقالوا‏:‏ ما كان من الذبائح سليما من هذه الشروط فهو ‏(‏‏(‏دخيا‏)‏‏)‏ وتفسيره‏:‏ طاهر‏.‏

وما كان خارجا عن ذلك فهو ‏(‏‏(‏طريفا‏)‏‏)‏ وتفسيره‏:‏ نجس حرام،

ثم قالوا‏:‏ معنى قوله في التوارة‏:‏ ‏(‏‏(‏ولحم فريسة في الصحراء لا تأكلوه، للكلب ألقوه‏)‏‏)‏ يعني‏:‏ إذا ذبحتم ذبيحة، ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها، بل بيعوها على من ليس من أهل ملتكم، قالوا‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏للكلب ألقوه‏)‏‏)‏ أي‏:‏ لمن ليس على ملتكم فهو الكلب فأطعموه إياه بالثمن‏.‏

فتأمل هذا التحريف، والكذب على الله، وعلى التوراة، وعلى موسى، ولذلك كذبهم الله على لسان رسوله في تحريم ذلك،

فقال في السورة المدنية التي خاطب فيها أهل الكتاب‏:‏ ‏(‏فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا، واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون، إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله‏)‏ الآية‏.‏

وقال في سورة الأنعام‏:‏ ‏(‏قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم‏.‏

وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم‏)‏ فهذا تحريم زائد على تحريم الأربعة المتقدمة‏.‏

وقال في سورة النحل، وهي بعد هذه السورة نزولا‏:‏ ‏(‏وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل‏)‏ فهذا المحرم عليهم بنص التوارة ونص القرآن‏.‏

فلما نظر ‏(‏‏(‏القرابون‏)‏‏)‏ منهم وهم أصحاب عايان، وبنيامين إلى هذه المحالات الشنيعة، والافتراء الفاحش، والكذب البارد على الله، وعلى التوارة، وعلى موسى، وأن أصحاب ‏(‏‏(‏التلمود والمشنا‏)‏‏)‏كذابون على الله، وعلى التوارة، وعلى موسى، وأنهم أصحاب حماقات ورقاعات، وأن أتباعهم ومشايخهم يزعمون أن الفقهاء منهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة من هذه المسائل وغيرها يوحي الله إليهم بصوت يسمعونه ‏(‏‏(‏الحق في هذه المسألة مع الفقيه فلان‏)‏‏)‏ ويسمون هذا الصوت ‏(‏‏(‏بث قول‏)‏‏)‏‏.‏

فلما نظر ‏(‏‏(‏القرابون‏)‏‏)‏ إلى هذا الكذب المحال قالوا‏:‏ قد فسق هؤلاء، ولا يجوز قبول خبر فاسق، ولا فتواه، فخالفوهم في سائر ما أصلوه من الأمور التي لم ينطق بها نص التوارة‏.‏

وأما تلك الترهات التي ألفها فقهاؤهم الذين يسمونهم ‏(‏‏(‏الحخاميم‏)‏‏)‏ في علم الذباحة، ورتبوها، ونسبوها إلى الله فأطرحها القرابون كلها وألغوها، وصاروا لا يحرمون شيئا من الذبائح التي يتولون ذبحها البتة، ولهم فقهاء أصحاب تصانيف، إلا أنهم يبلغون في الكذب على الله، وهم أصحاب ظواهر مجردة، والأولون أصحاب استنباط وقياسات‏.‏ ‏(‏ص 135‏)‏

*3*‏ (‏فصل‏)‏ الربانيون

والفرقة الثانية يقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏الربانيون‏)‏‏)‏ وهم أكثر عددا، وفيهم الحخاميم الكذابون على الله الذين زعموا أن الله كان يخاطب جميعهم في كل مسألة بالصوت الذي يسمونه ‏(‏‏(‏بث قول‏)‏‏)‏‏.‏

وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم، فإن الحخاميم أو هموهم بأن الذبائح لا يحل منها إلا ما كان على الشروط التي ذكروها، فإن سائر الأمم لا تعرف هذا، وأنه شيء خصوا به وميزوا بهم عمن سواهم، وأن الله شرفهم به كرامة لهم، فصار الواحد منهم ينظر إلى من ليس على نحلته كما ينظر إلى الدابة، وينظر إلى ذبائحه كما ينظر إلى الميتة‏.‏

وأما ‏(‏‏(‏القرابون‏)‏‏)‏ فأكثرهم خرجوا إلى دين الإسلام ونفعهم تمسكهم بالظواهر، وعدم تحريفها إلى أن لم يبق منهم إلا القليل، لأنهم أقرب استعدادا لقبول الإسلام لأمرين‏:‏

‏(‏أحدهما‏)‏‏:‏ إساءة ظنهم بالفقهاء الكذابين المفترين على الله، وطعنهم عليهم‏.‏

‏(‏الثاني‏)‏‏:‏ تمسكهم بالظواهر، وعدم تحريفها، وإبطال معانيها‏.‏

وأما أولئك ‏(‏‏(‏الربانيون‏)‏‏)‏ فإن فقهاءهم وحخاميمهم حصروا في مثل سم الخياط بما وضعوا لهم من التشديدات والآصار والأغلال المضافة إلى الآصار والأغلال التي شرعها الله عقوبة لهم، وكان لهم في ذلك مقاصد‏.‏‏.‏‏.‏ ‏(‏منها‏)‏ أنهم قصدوا بذلك مبالغتهم في مضادة مذاهب الأمم، حتى لا يختلطوا بهم، فيؤدي اختلاطهم بهم إلى موافقتهم والخروج من السبت واليهودية‏.‏

‏(‏القصد الثاني‏)‏ أن اليهود مبدون في شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها، كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏وقطعناهم في الأرض أمما‏)‏‏.‏

*2*  حيل حخاميمهم الدنيئة

وما من جماعة منهم في بلدة إلا إذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة يظهر لهم الخشونة في دينه والمبالغة في الاحتياط، فإن كان فقهائهم شرع في إنكار أشياء عليهم يوهمهم قلة دينهم وعلمهم، وكلما شدد عليهم قالوا‏:‏

هذا هو العالم، فأعلمهم أعظمهم تشديدا عليهم، فتراه أول ما ينزل عليهم لا يأكل من أطعمتهم وذبائحهم، ويتأمل سكين الذباح، ويشرع في الإنكار عليه ببعض أمره، ويقول‏:‏ لا آكل إلا من ذبيحة يدي، فتراهم معه في عذاب، ويقولون‏:‏

هذا عالم غريب قدم علينا، فلا يزال ينكر عليهم الحلال، ويشدد عليهم الآصار والأغلال، ويفتح لهم أبواب المكر، والاحتيال، وكلما فعل هذا، قالوا‏:‏ هذا العالم الرباني، والحخيم الفاضل، فإذا رآه رئيسهم قد مشى حاله، وقبل بينهم مقاله، وزن نفسه معه، فإذا رأى أنه ازدرى به، وطعن عليه لم يقبل منه، فإن الناس في الغالب يميلون مع الغريب، وينسبه أصحابه إلى الجهل وقلة الدين، ولا ‏(‏ص 136‏)‏ يصدقونه لأنهم يرون القادم قد شدد عليهم وضيّق‏.‏

وكلما كان الرجل أعظم تضييقا وتشديدا، كان أفقه عندهم، فينصرف عن هذا الرأي، فيأخذ في مدحه وشكره، فيقول‏:‏ لقد عظم ثواب فلان إذ قوّى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة، وشيّد أساسه، وأحكم سياج الشرع، فيبلغ القادم قوله، فيقول‏:‏ ما عندكم أفقه منه، ولا أعلم بالتوراة، وإذا لقيه يقول‏:‏ زين إليه بك أهل بلدنا، ونعش بك هذه الطائفة‏!‏‏!‏‏!‏

وإن كان القادم عليهم حبرا من أحبارهم، فهناك ترى العجب العجيب من الناموس التي تراه يعتمده، والسنن التي يحدثها، ولا يعترض عليه أحد، بل تراهم مسلمين له، وهو يحتلب درّهم، ويجتلب درهمهم‏.‏

وإذا بلغه عن يهودي طعن عليه، صبر عليه حتى يرى منه جلوسا على قارعة الطريق يوم السبت، أو يبلغه أنه اشترى من مسلم لبنا، أو خمرا، أو خرج عن بعض أحكام ‏(‏‏(‏المشنا والتلمود‏)‏‏)‏، فحرمه بين ملأ اليهود، وأباحهم عرضه، ونسبه إلى الخروج عن اليهودية، فيضيق به البلد على هذه الحال، فلا يسعه إلا أن يصلح ما بينه وبين الحبر بما يقتضيه الحال، فيقول لليهود‏:‏ إن فلانا قد أبصر رشده، وراجع الحق، وأقلع عما كان فيه، وهو اليوم يهودي على الوضع، فيعودون له بالتعظيم والإكرام‏!‏‏!‏‏!‏

*2* من شريعتهم نكاح امرأة الأخ أو العار‏!‏‏!‏

وأذكر لك مسألة من مسائل شرعهم المبدل، أو المنسوخ، تعرف بمسألة ‏(‏‏(‏البياما والجالوس‏)‏‏)‏ وهي أن عندهم في التوارة‏:‏

إذا أقام أخوان في موضع واحد، ومات أحدهما ولم يعقب ولدا، فلا تصير امرأة الميت إلى رجل أجنبي بل حموها ينكحها، وأول ولد يولدها ينسب إلى أخيه الدارج‏.‏

فإن أبى أن ينكحها خرجت مشتكية إلى مشيخة قومه، قائلة‏:‏ قد أبى حموي أن يستبقي اسماً لأخيه في بني إسرائيل، ولم يرد نكاحي، فيحضره ويكلفه أن يقف، ويقول‏:‏ ما أردت نكاحها، فتتناول المرأة نعله فتخرجه من رجله، وتمسكه بيدها، وتبصق في وجهه، وتنادي عليه‏:‏ كذا فيلصنع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه‏.‏

ويدعى فيما بعد‏:‏ بالمخلوع النعل، وينتبز بنوه بهذا اللقب، وفي هذا كالتلجئة له إلى نكاحها، لأنه إذا علم أنه قد فرض على المرأة وعليه ذلك، فربما استحيا، وخجل من شيل نعله من رجله، والبصق في وجهه، ونبزه باللقب المستكره الذي يبقى عليه وعلى أولاده عاره، ولم يجد بداً من نكاحها‏.‏

فإن كان من الزهد فيها والكراهة لها، بحيث يرى أن هذا كله أسهل عليه من أن يبتلى بها، وهان عليه هذا كله، في التخلص منها لم يكره على نكاحها، هذا عندهم في التوارة‏.‏

ونشأ لهم من ذلك، فرع مرتب عليه وهو‏:‏ أن يكون مريدا للمرأة، محبا لها، وهي في غاية الكراهة له، فأحدثوا لهذا الفرع حكما في غاية الظلم والفضيحة، فإذا جاءت إلى الحاكم أحضروه معها، ولقنوها أن تقول‏:‏ إن ‏(‏ص 137‏)‏ حموي لا يقيم لأخيه اسما في بني إسرائيل، ولم يرد نكاحي، وهو عاشق لها - فيلزمونها بالكذب عليه، وأنها أرادته فامتنع - فإذا قالت ذلك، ألزمه الحاكم أن يقوم ويقول‏:‏ ما أردت نكاحها - ونكاحها غاية سؤله، وأمنيته، فيأمرونه بالكذب عليها - فيخرج نعله من رجله إلا أنه لا مَسْكٌ هنا، ولا ضَرْب، بل يبصق في وجهه، وينادى عليه‏:‏ هذا جزاء من لا يبني بيت أخيه‏.‏

فلم يكفهم أن كذبوا عليه حتى أقاموه مقام الخزي، وألزموه بالكذب، والبصاق في وجهه، والعتاب على ذنب جره غيره، كما قيل‏:‏

وجرم جره سفهاء قوم * وحل بغير جارمه العذاب

أفلا يستحي من تعيير المسلمين من هذا شرعه ودينه‏؟‏ ‏!‏

*2* ما لاقاه اليهود‏.‏‏.‏‏.‏من الإذلال والصغار من مختلف الأمم والدول، وكان سبب طمس معالم دينهم وآثارهم

*3*‏(‏فصل‏)‏ انقراض أمة اليهود بسبب كفرها وضلالها

ولا يستبعد اصطلاح أمة اليهود على المحال، واتفاقهم على أنواع من الكفر والضلال‏.‏

فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها، وأخذ بلادها انطمست حقائق سالف أخبارها، ودرست معالم دينها، وآثارها، وتعذر الوقوف على الصواب الذي كان عليه أولوها وأسلافها؛ لأن زوال الدولة عن الأمة إنما يكون بتتابع الغارات، وخراب البلاد، وإحراقها، وجلاء أهلها عنها، فلا تزال هذه البلايا متتابعة عليها، إلى أن تستحيل رسوم دياناتها، وتضمحل أصول شرعها، وتتلاشى قواعد دينها‏.‏

وكلما كانت الأمة أقدم، واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالإذلال والصغار، كان حظها من اندراس دينها أوفر، وهذه أمة اليهود أوفر الأمم حظا من ذلك، فإنها أقدم الأمم عهدا، واستولت عليها سائر الأمم من الكندانيين، والكلدانيين، والبابليين، والفرس، واليونان، والنصارى، وما من هذه الأمم أمة إلا وقصدت استئصالهم، وإحراق كتبهم، وتخريب بلادهم، حتى لم يبق لهم مدينة، ولا جيش، ولا حصن، إلا بأرض الحجاز وخيبر، فأعز ما كانوا هناك‏.‏

فلما قام الإسلام، واستعلن الرب تعالى من جبال فاران صادفهم تحت ذمة الفرس والنصارى، وصادف هذه الشرذمة بخيبر والمدينة، فأذاقهم الله بالمسلمين من القتل، والسبي، وتخريب الديار، ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم‏.‏

وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء، فكتب الله عليهم الجلاء، وشتتهم ومزقهم بالإسلام كل ممزق، ومع هذا فلم يكونوا مع أمة من الأمم أطيب منهم مع المسلمين، ولا آمن، فإن الذي نالهم من النصارى، والفرس، وعباد الأصنام، لم ينلهم من المسلمين مثله‏.‏

وكذلك الذي نالهم مع ملوكهم العصاة الذين قتلوا الأنبياء، وبالغوا في ‏(‏ص 138‏)‏ طلبهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدنة للأصنام لتعظيمها وتعظيم رسومها في العبادة، وبنوا لها البيع والهياكل، وعكفوا على عبادتها، وتركوا لها أحكام التوراة، وشرع موسى أزمنة طويلة، وأعصارا متصلة‏.‏

فإذا كان هذا شأنهم مع ملوكهم، فما الظن بشأنهم مع أعدائهم أشد الأعداء عليهم، كالنصارى الذين عندهم أنهم قتلوا المسيح، وصلبوه، وصفعوه، وبصقوا في وجهه، ووضعوا الشوك على رأسه، وكالفرس، والكلدانيين وغيرهم‏.‏

*2*  صلاتهم دعاء على الأمم‏.‏‏.‏ وإفك على الله تعالى وتقدس

وكثيرا ما منعهم ملوك الفرس من الختان، وجعلوهم قلفا، وكثيرا ما منعوهم من الصلاة لمعرفتهم بأن معظم صلاتهم دعاء على الأمم بالبوار، وعلى بلادهم بالخراب، إلا أرض كنعان، فلما رأوا أن صلاتهم هكذا، منعوهم من الصلاة‏.‏

فرأت اليهود أن الفرس قد جدّوا في منعهم من الصلاة، فاخترعوا أدعية مزجوا بها صلاتهم، سموها ‏(‏‏(‏الخزانة‏)‏‏)‏ وصاغوا لها ألحانا عديدة، وصاروا يجتمعون على تلحينها، وتلاوتها، والفرق بين الخزانة والصلاة، أن الصلاة بغير لحن، ويكون المصلي فيها وحده، والخزانة بلحن يشاركه غيره فيه‏.‏

فكانت الفرس إذا أنكروا ذلك عليهم، قالت اليهود‏:‏ نحن نغني، وننوح على أنفسنا، فيخلون بينهم وبين ذلك، فجاءت دولة الإسلام، فأمنوا فيها غاية الأمن، وتمكنوا من صلاتهم في كنائسهم، واستمرت الخزانة سنّة فيهم في الأعياد، والمواسم، والأفراح، وتعوضوا بها عن الصلاة‏.‏

والعجب أنهم مع ذهاب دولتهم، وتفرّق شملهم، وعلمهم بالغضب الممدود المستمر عليهم، ومسخ أسلافهم قردة، لقتلهم الأنبياء وعدوانهم في السبت، وخروجهم عن شريعة موسى والتوراة، وتعطيلهم لأحكامها، يقولون في كل يوم في صلاتهم‏:‏

‏(‏‏(‏محبة الدهر‏)‏‏)‏ أحبنا، يا إلهنا‏!‏ يا أبانا‏!‏ أنت أبونا منقذنا‏!‏ ويمثلون أنفسهم بعناقيد العنب، وسائر الأمم بالشوك المحيط بالكرم لحفظه، وأنهم سيقيم الله لهم نبيا من آل داود إذا حرك شفتيه بالدعاء، مات جميع الأمم، ولا يبقى على وجه الأرض إلا اليهود‏.‏

وهو بزعمهم المسيح الذي وعدوا به، وينبهون الله بزعمهم من رقدته في صلاتهم، وينخونه، ويحمونه، تعالى الله عن إفكهم وضلالهم علوا كبيرا‏.‏ وضلال هذه أمة اليهود، وكذبها، وافتراؤها، على الله، ودينه، وأنبيائه، لا مزيد عليه‏.‏

وأما أكلهم الربا، والسحت، والرشا، واستبدادهم دون العالم بالخبث، والمكر، والبهت، وشدة الحرص على الدنيا، وقسوة القلوب، والذل و الصغار، والخزي، والتحيل على ‏(‏ص 139‏)‏ الأغراض الفاسدة، ورمي البرآء بالعيوب، والطعن على الأنبياء‏:‏ فأرخص شيء عندهم، وما عيروا به المسلمين مما ذكروه، ومما لم يذكروه، فهو في بعضهم، وليس في جميعهم، ونبيهم، وكتابه، ودينه، وشرعه بريء منه، وما عليه من معاصي أمته وذنوبهم، فإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم‏.‏

*2* أساس دين النصارى قائم على شتم الله، والشرك به، خرافة الفداء

*3*‏(‏فصل‏)‏ تعيير المسلمين بدين قائم على الخرافات

وإن كان المعير للمسلمين من اليهود والنصارى، فيقال له‏:‏

ألا يستحي من أصل دينه الذي يدين به، اعتقاده أن رب السموات والأرض تبارك وتعالى نزل عن كرسي عظمته وعرشه، ودخل في فرج امرأة تأكل، وتشرب، وتبول، وتتغوط، وتحيض، فالتحم ببطنها، وأقام هناك تسعة أشهر يتلبط بين نجو، وبول، ودم طمث، ثم خرج إلى القماط، والسرير، كلما بكى ألقمته أمه ثديها‏.‏

ثم انتقل إلى المكتب بين الصبيان، ثم آل أمره إلى لطم اليهود خديه، وصفعهم قفاه، وبصقهم في وجهه، ووضعهم تاجا من الشوك على رأسه، والقصبة في يده؛ استخفافا به، وانتهاكا لحرمته‏.‏

ثم قرّبوه من مركب خصّ بالبلاء راكبه، فشدوه عليه، وربطوه بالحبال، وسمّروا يديه ورجليه، وهو يصيح، ويبكي، ويستغيث من حر الحديد، وألم الصلب؛ هذا وهو الذي خلق السموات والأرض، وقسم الأرزاق والآجال‏.‏

ولكن اقتضت حكمته ورحمته، أن يمكن أعداءه من نفسه، لينالوا منه ما نالوا، فيستحقوا بذلك العذاب، والسجن في الجحيم، ويفدي أنبياءه ورسله، وأولياءه بنفسه، فيخرجهم من سجن إبليس؛ فإن روح آدم، وإبراهيم، ونوح، وسائر النبيين عندهم، كانت في سجن إبليس في الناس، حتى خلصها من سجنه بتمكينه أعداءه من صلبه‏!‏‏!‏‏!‏

*2*  مقالة أشباه الحمير في مريم وابنها

أما قولهم في ‏(‏‏(‏مريم‏)‏‏)‏فإنهم يقولون‏:‏ إنها أم المسيح ابن الله في الحقيقة، ووالدته في الحقيقة، لا أم لابن الله إلا هي؛ ولا والدة له غيرها، ولا أب لابنها إلا الله، لا ولد له سواه، وأن الله اختارها لنفسه، ولولادة ولده وابنه من بين سائر النساء‏.‏

ولو كانت كسائر النساء لما ولدت إلا عن وطء الرجال لها، ولكن اختصت عن النساء بأنها حبلت بابن الله، وولدت ابنه الذي لا ابن له في الحقيقة غيره، ولا والد له سواه، وإنها على العرش جالسة عن يسار الرب تبارك وتعالى والد ابنها، وابنها عن يمينه‏.‏

والنصارى يدعونها ‏(‏ص 140‏)‏ ويسألونها سعة الرزق، وصحة البدن، وطول العمر، ومغفرة الذنوب، وأن تكون لهم عند ابنها ووالده - الذي يعتقد عامتهم أنه زوجها، ولا ينكرون ذلك عليهم - سوراً، وسنداً، وذخراً، وشفيعاً، وركنا، ويقولون في دعائهم‏:‏ يا والدة الإله، اشفعي لنا‏!‏

وهم يعظمونها، ويرفعونها على الملائكة، وعلى جميع النبيين والمرسلين، ويسألونها ما يسأل الإله من العافية، والرزق، والمغفرة، حتى أن ‏(‏‏(‏اليعقوبية‏)‏‏)‏ يقولون في مناجاتهم لها‏:‏ يا مريم، يا والدة الإله، كوني لنا سورا، وسندا، وذخرا، وركنا‏.‏

‏(‏‏(‏والنسطورية‏)‏‏)‏ يقولون‏:‏ يا والدة المسيح، كوني لنا كذلك‏!‏

ويقولون لليعقوبية‏:‏ لا تقولوا يا والدة الإله، وقولوا‏:‏ يا والدة المسيح، فقالت لهم اليعقوبية‏:‏ المسيح عندنا وعندكم إله في الحقيقة، فأي فرق بيننا وبينكم في ذلك‏؟‏ ولكنكم أردتم مصالحة المسلمين، ومقاربتهم في التوحيد‏.‏

هذا والأوقاح الأرجاس من هذه الأمة، تعتقد أن الله سبحانه اختار مريم لنفسه، ولولده، وتخطاها كما يتخطى الرجل المرأة‏.‏

قال النّظام بعد أن حكى ذلك عنهم، وهم يفصحون بهذا عند من يثقون به‏.‏

وقد قال ابن الأخشيد هذا عنهم في ‏(‏‏(‏المعونة‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ إليه يشيرون، ألا ترون أنهم يقولون‏:‏ من لم يكن والدا يكون عقيما، والعقم آفة وعيب، وهذا قول جميعهم، وإلى المباضعة يشيرون، ومن خالط القوم، وطاولهم، وباطنهم عرف ذلك منهم، فهذا كفرهم، وشركهم برب العالمين، ومسبتهم له، ولهذا قال فيهم أحد الخلفاء الراشدين‏:‏ أهينوهم، ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر‏.‏

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏شتمني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وكذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، أما شتمه إياي فقوله‏:‏ اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله‏:‏ لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته‏)‏‏)‏‏.‏

فلو أتى الموحدون بكل ذنب، وفعلوا كل قبيح، وارتكبوا كل معصية، ما بلغت مثقال ذرة في جنب هذا الكفر العظيم برب العالمين، ومسبته هذا السب، وقول العظائم فيه‏.‏

فما ظن هذه الطائفة برب العالمين أن يفعله بهم إذا لقوه ‏(‏يوم تبيض وجوه وتسود وجوه‏)‏ ويسأل المسيح على رؤس الأشهاد وهم يسمعون ‏(‏يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله‏)‏ فيقول المسيح مكذبا لهم، ومتبرئا منهم‏:‏

‏(‏سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليه شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد‏)‏‏؟‏ ‏!‏‏!‏‏(‏ص 141‏)‏‏.‏